صناعة المعرفة في الإمارات
على مدار العام، تشهد دولة الإمارات عدداً هائلاً من الفعاليات والندوات والمؤتمرات المبهرة في محتواها وحضورها وتنظيمها. تصل بك الحالة أحياناً إلى حد الحيرة: كيف يمكن أن تحضر أكثر من فعالية في اليوم ذاته؟ خلال الأسابيع القليلة الماضية، حضرت عدة فعاليات مهمة في كل من أبوظبي ودبي والشارقة. كما شاركت في عدد من ورش العمل التدريبية في إمارة عجمان، لأكتشف من جديد أن عجمان تستعد بقوة للدخول في مرحلة تنموية مبهرة جديدة.
العامل المشترك في جميع هذه الفعاليات الكثيرة كان جودة المحتوى ودقة التنظيم وتنوع المواضيع وعمق النقاش. وأستطيع القول بكل ثقة إن المعرفة صارت صناعة احترافية بامتياز في دولة الإمارات. فهذا العدد الكبير من المتحدثين والمشاركين، القادمين من إمارات الدولة ومختلف أنحاء المنطقة، بل ومن خارجها، لا يقتصر إسهامهم على الاقتصاد المحلي فحسب، وإنما على صناعة المعرفة ذاتها، وتلك من أساسيات اقتصاد المعرفة الذي تتنافس عليه الدول الكبرى اليوم.
تسير الإمارات بخطى حثيثة نحو التحول إلى اقتصاد قائم على المعرفة، فالسياسة العليا لدولة الإمارات في مجال العلوم والتكنولوجيا والابتكار تتضمن 100 مبادرة باستثمارات تبلغ أكثر من 300 مليار درهم. وكما أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، فإن الإمارات لا تسعى إلى نقل المعرفة بل إلى ترسيخها في العقول بما يتيح توليد الأفكار المبدعة وإنتاج الحلول المبتكرة لخير الوطن ومصلحة البشرية. وفي هذا السياق لم يكن مفاجئاً أن تأتي دولة الإمارات في المرتبة الأولى عربياً، متقدمةً 6 مراكز عالمياً إلى المركز 41 في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2016. كما ارتفع ترتيبها إلى المركز 86 عالمياً (كان 134) في مؤشر مخرجات المعرفة والتكنولوجيا، ويشمل ذلك مؤشر انتشار المعرفة الذي ارتفع من المرتبة 137 إلى المرتبة 53. هذا المنجز جاء في سياق منظومة متكاملة من الجهود والمشاريع والفعاليات، منها تنظيم المؤتمرات والمنتديات النوعية في شتى التخصصات والمجالات.
وفي ظل هذه الجهود التي تبذلها دولة الإمارات، من المهم الاستفادة من هذا الثراء المعرفي المصاحب لكل هذه الفعاليات التي يتم تنظيمها في مختلف إمارات الدولة، والعمل على تنمية وتطوير هذه الثروة المعرفية الكبيرة. خطوة رئيسة في تطوير هذه الصناعة تتمثل في تقديم مزيد من التسهيلات لإقامة واحتضان المزيد من الفعاليات، ليس فقط لتأكيد مكانة الإمارات في هذه الصناعة إقليمياً، ولكن أيضاً لجعل الإمارات مركزاً مهماً من المراكز العالمية لصناعة المعرفة وإقامة الفعاليات المعرفية المهمة. لذا، من المهم للغاية أن نسهل الإجراءات ونخفف التكاليف والأعباء على منظمي هذه الفعاليات، سواء أكانوا شركات محلية أم عالمية، لكي تبقى الإمارات من أهم الدول الجاذبة للاستثمارات في قطاع المؤتمرات والمنتديات والمعارض. فالبعد الاقتصادي الأهم والأعمق في هذه الأنشطة ليس ذلك المباشر، من خلال الرسوم المباشرة أو المبالغ المدفوعة لاستئجار القاعات وغيره، وإنما أيضاً، وأكثر، أهمية المعرفة والخبرات والأفكار والصفقات والعلاقات التي تنشأ بسبب وخلال تلك الفعاليات.
هذه الفعاليات تدعم أيضاً قوة الدولة الناعمة (Soft Power)، القوة التي تمتاز بها الإمارات اليوم على مستوى المنطقة والعالم. وقد حضرت الأسبوع الماضي تتويج صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، لأبطال تحدي القراءة العربي، أكبر مشروع لتشجيع القراءة لدى الطلاب العرب، حيث شارك فيه 3.5 مليون طالب من 21 دولة حول العالم، وقدمت من خلاله دولة الإمارات نموذجاً راقياً للعالم في الوقت الذي نشهد فيه صراعات عديدة في هذا الجزء من العالم. فالمعرفة والعلم والثقافة تعزز رسالة دولة الإمارات القائمة على ثقافة التسامح والانفتاح الحضاري الذي سيساهم في أن تعيش شعوب المنطقة في استقرار وسلام.
في ظل الظروف الاقتصادية المتقلبة، في المنطقة والعالم، ينبغي التذكير بأهمية تقديم مزيد من التسهيلات المالية والإجرائية لمنظمي الفعاليات والمؤتمرات والندوات بمختلف أنواعها، لا سيما المعرفية، لضمان استمرارها ولجذب المزيد من الفعاليات الإقليمية والعالمية. صناعة المعرفة هي تراكم من التجارب المتنوعة، في مجالات وقطاعات متعددة ومتنوعة. واليوم تتربع الإمارات على عرش النجاح والتميز في هذه الصناعة. ومن هنا تأتي أهمية ترسيخ هذه المكانة بمزيد من العمل الذكي والاستشرافي للحفاظ على ما تحقق في هذا المجال واستقطاب المزيد من الأنشطة واللقاءات والمشاريع الداعمة للمعرفة.
-----
سليمان الهتلان*
*كاتب سعودي